عندما استعصتْ مكَّةُ على الدعوة الإسلاميَّة، وغَدَتْ أرضًا جدباء، طلب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم النصرةَ خارجها، فولَّى وجهه الكريم تلقاءَ مدينة الطائف، لكنَّ ثقيفًا أساءتْ استقباله، وأخرجته إخراجًا سيِّئًا قبيحًا، فاختار له ربُّه عزَّ وجلَّ بعد سنوات قليلة مكانًا ملائمًا، يحتضن الرِّسالة ونبيَّها وأبناءَها، هو يثرب، فكانتِ الهجرة إليها.
إنَّ الهجرة النبويَّة نقلتْ رسالة الإسلام من طَوْر الدعوة الفردية إلى طور الدعوة تحتَ ظلال الدولة، ففُتحتْ لدِين الله تعالى آفاقٌ أرحبُ في الأرض، وفي النفوس، والعِبر المستقاة من هذا الحَدَث التاريخي العظيم لا تُحْصى كثرةً، وكلها معالِم تربوية رفيعة المستوى للفَرْد والجماعة، نقِف عند بعضها:
1- يثرب هي المدينة: كل المدن في أرْض الله تعالى تحْمِل اسمًا مميَّزًا يلازمها، فإذا غيَّره الناس وضعوا محلَّه اسمًا آخر، إلاَّ مثوى الهجرة المباركة، فإنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أطلق على يثرب اسمَ المدينة، وهو اسمٌ بسيط في مبناه، عظيم في معناه؛ إذ يوحي بنقْل العرب من البداوة والحياة الساذَجة إلى آفاق المدنيَّة الراقية التي تجمع بين الربَّانيَّة والإنسانية، وتُتوِّج الإنسانَ بتوحيد الله تعالى والأخلاق الكريمة، وتُطلِق يديه لرْفع مستواه الأدبي والمادي، وتُشجِّعه على كلِّ إبداع فيه خِدمةٌ للدِّين، ونفْع للناس،وتَربَّى في المدينة جيلٌ ربَّاني فريد، حوَّل العرب من رُعاةٍ للغنم، إلى قادة للأمم، ولولا أنوارُ المدينة لبَقُوا في باديتهم يحيون فيها ويموتون نكرات، لا يأبَه بهم أحد.
2- تضحية وإيثار: يُشكِّل المهاجرون والأنصار طرَفي حَدَث الهِجرة، وقد خصَّهم الله تعالى بميزتَين اكْتمل بهما الحَدَث، ولو تخلَّفت واحدة منهما لما اكتمل.
أمَّا القادِمون من مَكَّةَ المكرَّمة، فقد حقَّقوا التضحية في واقعهم، فخاطروا بأنفسهم، وتركوا بيوتَهم وأموالهم؛ ليستوليَ عليها المشركون، وقدِموا المدينة المنوَّرة مطاردين، فقراء معدمين، إلاَّ من إخلاص وصِدْق لا تشوبه شائبة، شهد لهم به ربهم؛ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
وصَلُوا دارَ الهجرة واستوطنوها متعفِّفين، لا يسألون الناس إلحافًا، فقام إلى نَجْدتهم الأنصارُ الأخيار، تعلوهم ميزةُ الإيثار والكرم، وحسن الضيافة، ولكن قبْلَها سجَّل القرآن الكريم لهم صِدْق النية والمشاعر نحوَ إخوانهم المهاجرين، فقد شَرَعوا لهم قلوبَهم، وفتحوا لهم صدورَهم قبلَ أن يقاسموهم البيوت والأموال؛ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
نال المهاجرون شهادةَ الصِّدْق، ونال الأنصارُ شهادة الفلاح: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
3- الخطوات الأولى في المدينة: بمجرَّد وصوله إلى قاعدة الإسلام الجديدة، قام الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم المسدَّد بالوحي بأربعة أعمال، يمتزج فيها الدُّنيوي بالأخروي، تؤسِّس لمرحلة التطهُّر والحياة الكريمة، والعدل والحرية والمساواة:
أولًا: بناء المسجد ليؤديَ دَورًا محوريًّا في حياة الجماعة المسلِمة، يجمع بين معاني العبادة، والتلاقي والإخاء، والتربية والسموِّ الروحي، والاجتماع الواقي من التفرُّق المذموم.
ثانيًا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لتكونَ تجرِبةً إيمانيَّة فريدة من نَوْعها في تاريخ البشرية تجمع بين شخصَين: أحدهما مَكِّيّ، والآخر مَدنيّ، وتصهرهما فيصبحان كأنَّهما خرجَا من صُلْب رجل واحد، يتقاسمان الممتلكاتِ، ويتوارثان عندَ الموت.
ثالثًا: فتْح سوقٍ للمسلمين لكَسْر احتكار اليهود للتجارة، وبعْث رُوح التنافس الاقتصادي، وإبراز التميُّز الإسلامي في جَلْب السلع وتداولها على قواعدَ جديدة، يترافق فيها النشاطُ التجاري بالخُلُق الرفيع.
رابعًا: إبرام الوثيقة التي تنظِّم علاقة المسلمين باليهود في الدولة الناشئة، فتُبيِّن الحقوقَ والواجبات، وتُرْسي معالِمَ التعايش، وتمنع من الحَيْف والاعتداء.
وبعد، فليستْ هذه دروسًا انتهى زمانُها، إنَّما هي عِبر غضَّة طريَّة، تنفع الأمَّة إذا تدبَّرتَها واقتدت بها في مشوار التغيير الاجتماعيّ، والعمل الدعويّ.
الكاتب: عبدالعزيز كحيل.
المصدر: موقع الألوكة.